احتفل العالم في العشر الثاني من شهر تشرين الأول بحدثين هامين على صعيد السكان. الحدث الأول، يتكرّر سنوياً، وهو اليوم العالمي للسكان، ويقع في الحادي عشر من تشرين الثاني. أما الحدث الثاني، فكان احتفال العالم بالمولود رقم 8 مليار في العالم وكانت طفلة سمّيت "فينيس".
لم تصل البشرية إلى المليار الأول لعدد سكانها إلا في العام 1804. إلا أن المليارات توالت منذ ذلك الحين بوتيرة أسرع. فبعد 123 عاماً، بلغنا المليار الثاني، ومن بعدها بثلاثة وثلاثين عاماً، أي عام 1960، وصل عدد السكان في العالم إلى 3 مليار. ومنذ ذلك الحين تسارع #النمو السكاني حتى أصبح العدد يزداد بمقدار مليار كل 12-14 سنة، إلى أن وصلنا إلى المليار الثامن منتصف شهر تشرين الثاني 2022. في الحقيقة، ليس المولود رقم 8 مليار إلا اختيار اصطلاحي. فالعدد قد يكون وصل إلى 8 مليار قبل ذلك، أو من الممكن أن يصل إليه من الآن إلى منتصف العام 2023. الهدف في الاصطلاح يكمن في إلقاء الضوء على القضايا الديموغرافية التي تواجه البشرية.
الديموغرافيا دائمة التغير، إذ لا معطيات ديموغرافية ثابتة في أي مجتمع، خاصة مع امتداد الزمن. ومن أهم التحوّلات التي ستحملها سنة 2023 هي تفوّق #الهند على #الصين حيث ستصبح الهند الدولة الأولى لناحية عدد السكان. بالإضافة إلى ذلك، فإن النمو السكاني الحالي هو الأدنى عالمياً منذ العام 1950 مما يؤدي إلى تزايد ظاهرة التعمّر، أي انتقال البنية السكانية من الشباب إلى الشيخوخة، في معظم دول العالم.
تعتبر ظاهرة التعمّر من أهم التحدّيات التي ستواجه العالم، إذ من المتوقّع أن يستمر النمو السكاني، وإن بوتيرة أبطأ، إلى العام 2080 حيث من المتوقّع أن يصل عدد السكان إلى 10.4 مليار نسمة. ولكن النمو لن يكون على الوتيرة نفسها، ففي الدول ذات الخصوبة المنخفضة كاليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا وإسبانيا والبرتغال وغيرها سيكون النمو سلبياً أي أن عدد السكان سيتناقص سنة بعد سنة، إلا إذا قامت هذه الدول، وغيرها التي تعاني المشكلة نفسها، باستقبال المهاجرين كوسيلة لوقف النمو السلبي للسكان.
هنا، لا بدّ من التساؤل، من أين سيأتي كل هذا النمو الذي سيوصل البشرية إلى أكثر من 10 مليارات نسمة؟
تشير كل التوقّعات إلى أن أكثر من نصف النمو السكاني سيأتي من منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا حيث يوجد عدد من الدول ذات الخصوبة الأعلى في العالم كالنيجر التي يبلغ معدل الخصوبة الكلية للمرأة الواحدة فيها 6.6 ولادات، أو الصومال حيث يبلغ المعدل 5.7 ولادة بينما هو في كوريا الجنوبية 1.1 ولادة أو 1.4 ولادة في اليابان على سبيل المقارنة. يؤدي النمو السكاني المستمر في هذه الدول الأكثر فقراً، إلى المزيد من الضغط على الموارد الاقتصادية الضئيلة أصلاً. هذا الضغط سيؤدي إلى نتيجتين حتميّتين. النتيجة الأولى هي تزايد الهجرة، وخاصة غير الشرعية منها، إلى الدول التي تعتبر أفضل حالاً اقتصادياً. تنحصر النتيجة الثانية للنمو السكاني المتزايد في مثلث مترابط الأطراف: مزيد من الولادات يعني مزيد من الأفراد في سن العمل، ما يؤدي إلى بطالة مرتفعة بسبب عدم توافر فرص العمل وهذا يولد كل أنواع المشكلات الاجتماعية والاضطرابات. لا بد من الإشارة هنا إلى ارتباط النمو السكاني بزيادة الطلب على الثروات والمقدّرات الطبيعية، ما يفاقم في استنزاف الطبيعة ويلوّث البيئة ويساهم في تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري والتغيّر المناخي.
لبنان مثلاً، والذي يعاني اليوم من أزمة اقتصادية هي الأخطر في تاريخه، يمرّ من دون أن يدري سكانه بأزمة ديموغرافية تتمثّل في انخفاض حاد للولادات، وارتفاع ملحوظ للهجرة. فبعد أن وصلت الولادات في لبنان إلى أعلى رقم حيث قارب الـ 120 ألف ولادة سنوياً عام 2019 عادت وانخفضت في شكل حاد في السنوات اللاحقة إلى حدود 80 ألف حالة ولادة عام 2021. هذا الرقم مرشح للمزيد من الانخفاض، ما يؤشّر إلى تحوّل انخفاض الخصوبة إلى منحى مستمر Trend مع تفاقم الأزمة، وإحجام الناس عن الزواج والإنجاب. في دراسة نشرتُها عام 2014 توقّعت أن يبدأ عدد سكان لبنان بالتراجع عام 2045. أما اليوم فمن الواضح أن عدد السكان سيتراجع قبل ذلك بكثير مع استمرار تراجع الولادات وزيادة الهجرة. خطورة هذا الواقع تكمن في الضغط المتوقّع على أنظمة الضمان الاجتماعي والحماية الاجتماعية التي ستضطر إلى رعاية عدد كبير من المتقاعدين على حساب عدد صغير من العاملين، ما يؤشّر إلى انهيار تام لدولة الرعاية وهو ما بدأنا نشهده فعلياً منذ اليوم.
ليست كل التحوّلات الديموغرافية سلبية بطبيعتها، لا بل على العكس، فأهم النتائج الإيجابية لكل التطور الطبي الذي شهده العالم تمثل في ارتفاع توقّع الحياة عند الولادة في كل دول العالم حتى أصبح يعادل 72.8 عاماً عالمياً، وهذا الرقم مرشّح ليصل إلى 77.5 قبل العام 2050.
يكمن التحدّي الأساسي في كيفية خلق توازن ديموغرافي: توازن عالمي بين بلدان فتيّة ذات خصوبة عالية وبلدان معمّرة ذات خصوبة منخفضة؛ وتوازن محلي داخل الدول بين مقدرات الدولة الاقتصادية وحجم سكانها. هذا بالإضافة طبعاً، إلى توازن أخلاقي - ثقافي بين المقدرة على تأمين الحياة الكريمة للأبناء والمتطلّبات الاقتصادية للمجتمع، من جهة؛ والقيم السائدة في المجتمع، والتي تحكم ما يأتي به الأهل من أولاد إلى هذا العالم، من جهة أخرى.
لا يتم هذا التوازن إلا بالتأسيس لوعي ديموغرافي اجتماعي عام وخاص. صحيح أن السياسات السكانية تهتم بوضع ومحاولة تنفيذ الخطط التي تحافظ على التوازن الديموغرافي، إلا أن تنفيذ هذه السياسات لا يمكن أن يتحقّق إن لم يتحسس الناس، أفراداً وفي أسرهم، للأهمية القصوى الملقاة على عاتقهم في إنجاب عدد محدّد من الأولاد يحافظ على رفاهية المجتمع، ويؤسّس لاستقراره.
المصادر الأساسية:
Department of Economic and Social Affairs, World Population
Prospects 2022, UN, New York, 2022.
إدارة الإحصاء المركزي: www.cas.gov.lb
مكتب الإحصاء الأميركي: www.census.gov
النهار
د. شوقي عطيه
منسق مختبر الديموغرافيا في مركز الأبحاث – معهد العلوم الاجتماعية، الجامعة ال#لبنانية